06‏/11‏/2014

عاشوراء والنقد المحرم

بسملة الحديث أننا نعيشُ في مجتمعاتٍ لا تحترم النقد ولا تُمارسه.
في الغالب تنبذُ بيئتُنا أولئك «الناقدين» الذي يَكفُرون بالسائد في المجتمع، حتى وإن كان ترفاً دينياً مُستحدثاً.
العقلُ الجمعيّ للبيئة النمطيّة يكتمُ أصواتَ الداعين إلى تنقيح الخطاب الديني من شوائبه، في حين أنّ التطوّر المعرفيّ لم يكن _ولن يكون يوماً_ حركةً صامتة.
لا بُدّ من بعض الصّخب في طرح المسائل الدينيّة الملحّة، وتحديداً تلك التي تمسّ الواقعَ بشكلٍ جارحٍ، حينَ تنحرفُ بعض المرويات أو الطقوس عن مسار العقل وروح التشريع.
ولنجترح مصطلحاً، «الصّخبُ الرساليٌّ» ضرورةٌ قصوى لحفظ الرسالة واستدامتها عندما تشارف بعض الثوابت الدينية على التزحزح، تماماً كما كانت «الثورةُ الرساليّةُ» ضرورةً لإنقاذ الدين برمّته من مجتمعٍ استحوذ عليه جهلٌ كافر.
هذا _من حيث المبدأ_ تبريرٌ وافٍ لجرأةٍ قد تتضمنها السطور التالية.
«عاشوراء».. المفردة التاريخيّة الأكثر انتصاراً للوعي، باتت تُستهلك في خطابٍ وطقوسٍ أبعد ما تكون عن جوهرها.
وثورة الحسين «المُصلح»، باتت مقتل الحسين «المظلوم».
هذه هي الضربةُ الكبرى لمشروع الحسين الذي أطلقهُ عبر التاريخ، ومن هنا ينبغي أن تُطلق ثورةُ وعيٍ جديدة.
أزمةُ المنبر
ذات دمعةٍ شجيّة، وحين كان قارئ مسجدنا _جميل الصوت_ ينقلنا إلى أجواء المصيبة والحزن، استفاق حسّ النقد لديّ فجأةٍ على وقع بعض الأفكار.
كان الخطيبُ يحكي قصّة العباس بن عليّ، وهو يُقاتل الأعداء ببسالته المشهودة، حتى قتل منهم ألف رجلٍ ونيّفاً!
ألفُ رجلٍ بما يعنيه العدد؟!
استفزّني الأمرُ بحيث استغرقت في حساب الوقت وتوزيعه على عدد القتلى: «لو أنّ كلّ رجلْ قتله العباس استغرق نصف دقيقةٍ لا أكثر، فسيحتاج إلى أكثر من خمسمئة دقيقة... أي قرابة العشر ساعات... معركة عاشوراء كلها لم تتجاوز ساعتين من نهار... كيف حصل ذلك! ثم من يمكن لهُ أن يفري كل هذا الوقت من دون لحظة راحة. وماذا ترك لغيره».
لم تتوقف الأفكار بسهولة، كما لم يرق لي أنّ مسألةً بسيطةً كهذه أبعدتني من سياق الوجدان الذي يحيط بي.
الجمهور غارقٌ بدموعه، ويبدو أن لا فسحة للتأمل في ما يُطرح من أفكار.
المعادلة إنسانية محضة، عندما يتصاعد الوجدان حدّ البكاء، لا ريبَ في أنّ الإنسان يفقدُ بعض موضوعيّته، وفي هذا مدعاةُ خوفٍ على البيئة التي لا تردُّ فكرةً غُلّفت باسم الحسين، حتى لو كانت خاطئة.
المثال الآنف من أبسط ما يُمرّر بالفعل، ثمّةَ موارد أُخرى لا يُحترم فيها العقل ولا تُراعى فيها حقائق التاريخ، وتنقية «المجلس الحسيني» منها انتصارٌ لهُ وليس طعناً فيه كما يراه المتحمسون.
من جملة ذلك، أنّ قرّاء المصائب يستحضرون شخصياتٍ ماتت قبل سنواتٍ من واقعة كربلاء، ليخلقوا مشاهدَ حزينةً تستدرُّ الدمعة.
للحسين ولدٌ اسمه علي الأكبر، أمّهُ ليلى توفيت قبل حادثة عاشوراء بسنواتٍ ثلاث، غير أننا نرى الكثير من القرّاء يستحضرون مشهدها وهي مغمىً عليها في خيمتها، لا توقظها سوى دمعات ابنها العائد من ميدان الموت، بعد أن يضع رأسها في حجره وتتساقط دموعهُ على خدّيها!
أيّ مشهدٍ سينمائيٍّ هذا الذي نختلقهُ من دون حياءٍ تاريخيّ، وأية مراهقةٍ علميةٍ تلك التي يرتكبها بعض من لا يحملون فكر الحسين، ولا يسيئون بعبثهم هذا إلّا إلى منهجه الناضج في المعرفة.
القاسمُ بنُ الحسن (وهو ابن أخ الحسين) لم يكن يتعدّى الثلاث عشرة سنة في كربلاء، تُصوّره بعضُ القراءات عريساً على ابنة الحسين التي لم يتجاوز عمرها العشر! وأنّ الحسين قد عقد قرانهما ثمّ أرسلهُ إلى المعركة ليموت... وتُرسَلُ الدموعُ على وقعٍ حادثةٍ لم تحصل يوماً. الكثير من الشخصيّات مسّها أذى هذا الانفلات المنهجي الذي يبرره صانعو البكاء، في حين أنّ حقيقة الأحداث المروعة التي شهدتها تلك الملحمة هي بغنىً فعلاً عن أيّ تشويهٍ أو إضافةٍ مصطنعة. 



ولعلّ الثغرة المعرفيّة الأكثر خطورةً في ما تذهبُ إليه بعض المنابر، هو كلامُ وأشعارُ «لسان الحال»، حيث يُمرِّر الخطيب أو الشاعر ضمنها كلّ ما من شأنه استثارة الدمعة واستدرار العاطفة، مهما بلغ به الإسفاف في بعض الحالات.
الأمثلة هنا أكثر من أن تحصر، والتشويه الذي يطاول شخصيّاتِ ثورةٍ حضاريةٍ كثورة الحسين يكاد يطغى على دورها الرئيس.
ولعلّ من أهمّ توصيفات ذلك؛ ما عبّر عنه المفكّر الشهيد مرتضى مطهري في كتابه القيّم «الملحمة الحسينيّة»: «أما الشهادة الثالثة للحسين، فكانت عندما استشهدت أهدافهُ على يد البعض من أهل المنبر الحسيني، وكان هذا هو الاستشهاد الأعظم، فالحسينُ ظُلم بما نُسب لهُ من خرافات وأساطير، ظُلم لأنّ تلك الروايات عتّمت على أهداف ثورته ومقاصدها، ظُلم على يد الرواديد ومن اعتلوا منبره ونسبوا له ولأهل بيته حوارات ومواقف وهميّة ملؤها الانكسار لاستدرار الدمع، فصوّروه وهو المحارب الجسور الذي افتدى مبادئهُ بروحه ودمه، وهو يلتمس الماء بكلّ ذلٍّ ومهانة من أعدائه! وصوّروا أخته زينب _الطود الشامخ_ التي دخلت على الطاغية يزيد فزلزلتهُ بخطبتها، على أنّها امرأةٌ جزِعةٌ بكّاءة تُثبّطُ همّةَ أخيها في الحرب!».
وتمتدُّ المبالغات أحياناً لتطرح الحسين في صورة الكائن الخارق للطبيعة، غيرَ أنهُ عطّل إمكاناته اللامحدودة نزولاً عند الرغبة الإلهيّة، وهو ما يُخرِج حركة هذا القائد «الإنسانيّ» الفريد عن حقيقة الغايات التي ضحّى لأجلها.
الحسين كان إنساناً كامل الإنسانيّة، ولوثة الغيب المطلق في تصوير شخصه أو قدراته المسيطرة على الوجود هي أكثر ما يخدش موقعه الرياديّ كـ»قدوةٍ» في حياة الإنسان الملتزم.
وإن كان مرجع هذه المسائل إلى محبةٍ طائشةٍ فلا أقل من وصف مرتكبيها بالسذاجة وضحالة الوعي.
وإن كان جهداً ممنهجاً لتفريغ الثورة وخنقها بالمرويات المكذوبة، فلعلّنا لسنا بحاجةٍ إلى توصيف.
لطالما كان اسم «المنبر الحسينيّ» شارة فخرٍ عريضٍ تزيّن صدور حامليه، وليكن ذلك لمن يمتلكون جدارته.
إنما في واقع الأمر، لم تستطع الكثير من المنابر التي حملت اسم الحسين مجاراة الفكر الثوريّ الذي جسّده الرجل، عمقاً وحركيةً وخطاباً.
وبات اختزال الثورةِ في بعدها الشخصيّ وقسوة أحداثها الإنسانيّة أحد أكثر الأخطاء المحدقة ضرراً.
من الموضوعية الإشارة إلى أنّ منابر كثيرةً حافظت على قيمة الوعي، وباتت مدارس متكاملة المعالم في هذا الإطار، الشيخ الوائلي مثّل رائدها الأبرز في أمسنا القريب. وهو ذاته الذي اشتهر بقوله: «ثمّةَ من يريد أن يشوّه ثورة الحسين إلى درجةٍ يحوّلوننا فيها إلى مخرّفين في أنظار المجتمعات... الحسين فكرة، الحسين وعي، الحسين رسالة».
صناعة الطقوس 
لعلّ الطقوس هي الحلقة الأكثر إحراجاً في الموضوع، إذ إنّ «التطوّر» المتسارع في ابتكار الجديد، وضعف القيادات العلميّة أمام تيّار الشارع، يفتحُ الباب لكلّ موضةٍ تُدرَجُ تحت عنوان «الشعائر».
وفي مدرسةٍ علميةٍ عريقةٍ تغنّت طوال تاريخها بأنها «ابنة الدليل حيثُما مال تميل»، يكون اجتراحُ طقوسٍ لا دليل عليها سُبةً علميةً كبيرة.
الدينُ بكلّه نتاج العقل والعلم، وصناعةُ طقوسهُ _حتى المستحبة منها_ محتكَرةٌ بيد المشرِّع، أو الشخصيّات المعصومة التي تنقل التشريع، وهذا ما يُكسبُ الحالة الدينية انضباطاً واحتراماً.
لكن... ما الذي يحصلُ حينَ ينفلت الأمرُ من عقاله، ويصبح لكلّ من يحمل لواء المحبة أن يخترع طقسه؟
كيف أصبحت ظاهرةٌ دمويّةٌ كالـ»تطبير» رائجةً في مدرسة العقل، وهي مستحدثٌ منقولٌ من ثقافاتٍ همجيةٍ معروفة، لا دليل علميّ لها، فضلاً عن أذاها المحرّم للجسد، وتشويهها المؤذي لصورة الدين.
ومن الذي فتحَ الباب أمام «المشي على الجمر» ليُصبحَ احتفالاً عاشورائياً (حتى في بعض الدول العربيّة _البعيدة من هذه الطقوس_ للأسف).
كيف باتت «ركضةٌ» انفعالية لقارئ مجلسٍ _منذُ قرابة الخمسين عاماً فقط_ طقساً مُقدّساً عند بعض مراقد السياحة الدينية؟!
متى أصبح طلاء الرأس والوجه بالطين عزاء؟! وكيف يُبرر البعض لمن يزحف داخل المقامات على بطونهم أو ظهورهم، وأولئك الذي يُعلّقون السلاسل في رقابهم ويمشون على الأربع!
أمام ذلك كلّه... ما الذي سيدور في خَلدِ «الحسين» لو كان حاضراً يرقبُ رواج هذه المشاهد الرجعيّة، باسمه!
إلى أين يمكنُ أن تودي هذه الغوغائيّة في صناعة طقوس الدين؟ وهل يمكنُ تخيّلُ معالم المستقبل الفوضويّ الذي سترسمه؟
أسئلةٌ كهذه لم تعد استشرافاً للمستقبل، بل أصبحت واقعاً ينبغي تدارُس ارتداداته وآليات علاجه. وسوى ذلك، فإنّ الحالة الدينية في طريقها المحتوم للابتعاد من الوعي شيئاً فشيئاً، بدءاً بالطقوس وانتهاء بالأفكار والمعتقدات.
النقطة الحساسة الأخرى في هذا الموضوع أنّ «القيادات الدينية» باتت بالفعل أضعف من مواجهة بعض الطقوس الجديدة غير المنضبطة، فالتيار المتحمّس الجارف يذهبُ بقسطٍ كبيرٍ من القواعد الشعبيّة، وقليلةٌ بالفعلِ هي تلكَ القياداتُ القادرةُ على ضبط الشارع. كما أنّ ضعف متابعة شريحةٍ من هذه القيادات للأثر الإعلامي وصناعة الصورة أمام الرأي العام، تتركهم من دون تقدير مدى الضرر الذي تلحقهُ نظريّات مثل: «كل ما من شأنه تعظيم ذكرى الحسين فهو جائز». وفي هذه «الكليّات» من الاتساع ما يسمحُ حتى لأخطر السلوكيات بالدخول تحت عباءتها واكتساب لونٍ من الشرعيّة والمصداقيّة!
إنّ الغنى الذي تكتنزهُ ثورة الحسين بن علي، فكرياً وسلوكياً ورساليةً ناضجة، أعظم بكثيرٍ من دفنها تحت ركام هذه الطقوس الرجعيّة. وبقدر ضرورة الإحياء الدوريّ والمستديم لهذه المناسبة، فإنّ ثورة التصحيح فيها ضرورةٌ أيضاً.
الحسينُ ليس شيعيّاً 
هذه العبارة بالذات مسؤوليةٌ عابرةٌ للمذاهب؛ فواقعُ الأمر اليوم أنّ «الحسين النموذج» يكاد يُحاصَر ضمن عنوانٍ طائفيٍّ واحد (مع وجود استثناءات محدودة).
ليس لنا أن نلومَ أولئك الذين يعيشون الذكرى همّاً سنوياً متصاعد الإحياء، غير أنّ العتبَ يمسُّ المتفرّجين على الذكرى وكأنها حصّةُ غيرهم من الدين.
ليس في اللغة ههنا تعريضٌ بطوائف أخرى، لكنّ عدم العناية بحركةٍ ثوريةٍ إصلاحيةٍ لحفيد رسول الدين _والتي كانت أحد عوامل بقاء الدين الرئيسة_ يُعتبرُ إجحافاً بحقّه من جهة، وبحقّنا في مكاسب الثورة من جهةٍ أخرى. في المبدأ... تعمّد الحسين حَرفية شعاره الذي أطلقه: «خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله»، ولم يحصر الثورة في حساب المنتمين إلى مذهب أبيه أمير المؤمنين؛ وهو ما ينبغي أن يُلحظ ويُعمم.
الحضارة الإسلاميّة تمتلك أيقونةً إنسانيةً فريدة اسمها «الحسين بن علي»؛ تكاد في روعتها وتكثيف القيم الحضارية التي أطلقتها تذهلُ كلّ مفكرٍ حول العالم، فغاندي و كارل بروكلمان وهنري ماسيه والكثير من الأسماء الكبيرة الأخرى، لم يكونوا ليلامسوا ويُكبروا تجسيداً أسمى لقيم الإصلاح ونموذجيّة الثورة لولا هذه الملحمة.
وهو ما ينبغي استغلالهُ ليصبّ في مصلحة الدين ككل؛ كمنظومة قيمٍ ومشروعٍ حضاريٍّ خاتم (أوسع من عصبيات المذاهب ومراهقاتها البينيّة).
أمام ذلك كلّه... ورغم تسارع المشاهد وتعالي الأصوات المنفعلة للانفلات من كلّ عِقالٍ علميٍّ أو تاريخيّ، من الجدير بنظريّةٍ راقيةٍ لحفيد الحسين الإمام جعفر الصّادق أن تضع سقفاً لمزايدات المتحمسين أو المشككين: «قليلٌ من الحق، يُغني عن كثيرٍ من الباطل».
هذا هو منطق المعرفة ومنطلق الوعي، وجوهر ثورة الحسين الذي يكمنُ في فكره قبل سيفه
علي عباس .
* باحث وأستاذ حوزوي