22‏/12‏/2010

من يتواطأ على من؟

ما وصف بالخالد دائما (نهر النيل)
 كتب / معتز منصور
محام مصري
ما يجري في حوض النيل نتيجة طبيعية لما يجري في الداخل. حيث التنازل المستمر عن مقومات وإمكانيات القوة الذاتية والعامة، فقد كانت البداية في إبلاغ السادات لهنري كسنجر. مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في 7 اكتوبر 1973، وذلك بعد ساعات قليلة من نجاح القوات المصرية في العبور بأن الحرب للتحريك وليست للتحرير.
وأن هدفها هو وضع العرب واليهود على مائدة مفاوضات واحدة. بعدها أُعتُمد مبدأ أن تسعة وتسعون بالمائة من أوراق الحل بيد الإدارة الأمريكية. وتأمركت السياسة المصرية، وزار السادات القدس المحتلة. وبدأ فك ارتباطه وتفكيك علاقة مصر بدوائرها العربية والإقليمية والدولية، واحدة تلو الأخرى. ودخل الحكم المصري طائعا مختارا إلى الحظيرة الأمريكية، وبدخوله أمكن حبسه في دائرة أضيق هي الدائرة الصهيونية، وإذا كان السادات قد أمرك الإدارة المصرية على أمل أن تحل بديلا عن تل أبيب، جاء حسني مبارك فصهين القرار المصري ووضعه في خدمة المشروع الصهيوني، وبين السادات ومبارك ضاع أمن مصر وامانها على كافة المستويات

. كان الانفتاح تسليما لأقدار مصر الاقتصادية النامية إلى صندوق النقد الدولي، واستهلت خطط تصفية القوة الاقتصادية بالانفتاح وانتهت بالخصخصة، ومعها بدأت حرب المياه. وقد ظهرت بوادرها في الثمانينات من القرن الماضي. في أعقاب توقيع معاهدة كامب ديفيد، بالدعوة لهدم السد العالي. أطلقها عائدون من كهوف التاريخ، ومن جحور الخلايا النائمة في الداخل والخارج، واندفع معهم جيل من الأتباع الجدد، تجمعهم الجهالة واستعدادهم لتبديد كل شيء وبيع كل شيء.
العودة للبدايات تفسر لنا ما آلت إليه النهايات، فحكم يفك ارتباطه بدوائره الطبيعية ويعلن انسلاخه عنها وبراءته منها، إن جاء ذلك عفوا فهو جهل، وإن كان عمدا فهو خيانة. والعربدة في منابع النيل سبقتها ومهدت لها عربدات اخري عديدة .عربدة في شمال مصر وشرقها. عربدة أعالي النيل امتداد للعربدة في فلسطين والعراق ولبنان وسيناء. وكما أعطى حكم مصر ظهره للعرب فقد أبعد مصر عن افريقيا. كانت مشاريع الري المصرية ومشروعاتها تنتشر في نهر النيل من منابعه حتى مصبه، وكان الدور السياسي والثقافي والتعليمي والإعلامي حاضرا يضيء القارة السوداء، ويشد بيدها ضد استغلال وعنصرية الغزاة القادمين من وراء البحار. ضاع كل ذلك.
ومن يعمل على تمكين عدوه من محاصرته في الشمال والشرق، بالفراغ الأمني والعسكري والبشري في سيناء وبالأساطيل الأمريكية والصهيونية في البحر المتوسط. من يتواطأ على أمن وسلامة بلاده في الشمال والشرق لا يتورع عن فعل نفس الشيء في منابع النيل. ودليلنا هو خصخصة مياه النيل، لتصبح ملكا للشركات والاحتكارات الغربية والمتصهينة. تتحكم فيها وتضع الوطن والمواطن تحت رحمتها، ثم تمنحها في النهاية للصهاينة كما مُنح الغاز والنفط بأسعار تفضيلية متدنية لا يتمتع بها المواطن المصري ذاته. ولعبت دوائر ألمانية دور حصان طروادة في مرحلة جديدة لحرب المياه. ففي نهاية شهر مارس 2006، حملت اوساط ألمانية الحكومات العربية والافريقية مسؤولية سوء إدارة المياه وتوزيعها، كغطاء لمساعدة الحكومة المصرية في طلب التدخل لإدارة مواردها المائية، عن طريق المشاريع الألمانية في مصر. وتولى البنك الدولي مسؤولية التمويل. وما أدراك ما البنك الدولي ومخططاته.
بعد أشهر يقرر أحمد نظيف، حسب ما ورد في موقع 'المصريون ' الألكتروني، وتحديدا في أغسطس 2006 خصخصة النيل وبيع مياهه للفلاحين، ووقعت حكومته اتفاقا بين وزارة الري و مستثمرين أجانب. مدته ثلاثون عامًا قابلة للتجديد. وانتقلت المياه من شأن وطني إلى شأن احتكاري غربي، وتخلت الحكومة عن إدارة المياه لصالح المستثمرين والمحتكرين. هم من يمدون شبكات وأنظمة ري الأراضي الزراعية مقابل تعريفة سنوية ثابتة يدفعها المزارع، تضاف إليها قيمة متحركة ثمنا لاستهلاكه اليومي منها. وأشار الموقع إلى تقرير مجموعة أكسفورد للأعمال إلى ان خصخصة النيل انطلقت من منطقة جنوب غرب الدلتا على مساحة 450 ألف فدان. تولت الحكومة تقديم الضمان اللازم للبنك الدولي لقرض بقيمة 175 مليون دولار يمنح للمستثمرين الأجانب، فيقومون بالسطو على النيل باسم الخصخصة، وقدم البنك دفعة أولى قدرها 15%من المبلغ، ثم يسحب الباقي وقدره 85%لإكمال المشروع. وزادت بذلك الأعباء الملقاة على عاتق المزارع المصري فضلا عن نقل تمليك المياه حكرا على الأجانب، فيتحكمون في شريان الحياة الوحيد للمصريين.

حتى أربعون عاما مضت كانت مصر طرفا فاعلا ورائدا في الشؤون الافريقية، مارسته وهي تحمل على كاهلها تراثا من الخبرات والعلاقات الوطيدة منذ مطلع القرن التاسع عشر. وصلت إلى أعماق السودان الجنوبية، وساهمت في اكتشاف منابع النيل، ووصلت إلى الصومال والجناح الشرقي للقارة السمراء، واستأنفت دورها الافريقي في خمسينات وستينات القرن الماضي، وخاضت مع افريقيا معارك استقلالها وتحررها. وانتشرت بعثاتها في طول القارة وعرضها. وتنوعت من تعليمية واقتصادية وزراعية ومائية، مع خبراء في الإدارة والقانون والسياسة، وحتى الدعاة ورجال الدين كانوا ضمن هذه البعثات. وصل التعاون مع تنزانيا وكينيا وغانا وغينيا وأوغندا ودول جنوب الصحراء إلى مداه، كان زعماء تلك الدول يتوافدون على القاهرة، وبنفس القوة التي وقفت فيها مصر مع حقوق القارة في الاستقلال والتحرر والتنمية وقفت افريقيا مع مصر، وانتصرت للعرب ضد الصهيونية والعنصرية والاستعمار، وعندما تغير الحال وساد عبيد أمريكا وشركاء الدولة الصهيونية واستقر الوضع لفقهاء التطرف سرت نغمة التعالي على أبناء الجوار والعمق الاستراتيجي، وارتفعت لغة العنصرية والكفر ضد الأقربين وشركاء المصير، تسندها فتاوى تنزل بردا وسلاما على كل ما يمت للمشروع الصهيوني بصلة.
ويخرج علينا رأي من فلسطين ينبه إلى أهمية تعريب وأفرقة مسألة المياه، في وقت ذهب فيه حسني مبارك يطلب من برلسكوني الإيطالي حلا من خلال شركات الغرب الضالعة في مشاريع حوض النيل. يصف الأكاديمي الفلسطيني عبد الستار قاسم هم النيل بأنه هم عربي ثقيل . مؤكدا على أن دول حوض النيل ستتخذ قراراتها المائية بمعزل عن مصر والسودان، وسوف تجد من يؤازرها في الساحة الدولية سرا وعلانية، ودعم دول المنبع في جهودها لاستخدام نسب متزايدة من مياه النهر، يعد بمثابة كارثة كبيرة للعرب. قد توازي أو تفوق كارثة فلسطين، من وجهة نظره. هناك ما يقرب من 120 مليون عربي يعتمدون في حياتهم على مياه النيل، وجزء كبير منهم، سيعاني العطش إذا قل تدفق مياهه. والسودان يستطيع تدبر أمره جزئيا بسبب هطول الأمطار على مناطقه الجنوبية، وبسبب الينابيع المنبثقة من أرضه، لكن كارثة مصر ستكون مهلكة. في وقت لم تعد فيه الحصص المخصصة لمصر والسودان كافية. مصر تحتاج إلى أكثر من 10 مليارات متر مكعب إضافة إلى حصتها الحالية. والاعتراف بحقوق دول حوض النيل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار حقوق مصر والسودان.

ووجه الأنظار إلى أن افريقيا تحتضن أحد أكبر أنهار العالم، وهو نهر الكونغو. وتبلغ طاقته المائية حوالي 42 ألف متر مكعب/ ثانية، أو حوالي 1350 مليار متر مكعب سنويا. بينما لا تزيد طاقة النيل المائية عن 2830 متر مكعب/ ثانية، أي 90 مليار متر مكعب سنويا. ويمكن لنهر الكونغو أن يروي كل أفريقيا بكاملها إذا استغل بكفاءة. بدل أن تذهب مياهه كلها تقريبا إلى المحيط الأطلسي، وبسبب قوة تدفقه، يستطيع المُبحر أن يشرب ماء شبه عذب على مسافة 500 كيلومتر داخل الأطلسي. وذكر قاسم في دراسته : إذا كانت الهضبة الأفريقية ملتقى منابع النيل والكونغو وعرة للغاية، فإمكانية التغلب على الطبيعة واردة. والعرب يملكون إمكانيات مالية لا تتوفر لأغلب الدول الافريقية، التي لن تُمانع إذا تقدم العرب بحلول عملية توفر المياه من مصادر أخرى، مقابل احتفاظ مصر والسودان بحصصهما في مياه النيل ، لكنه يرى أن البلاد النفطية لن تذهب إلى آخر المشوار لتجنيب مصر والسودان ما هو متوقع من معاناة، وبذلك تزيد احتمالات الصدام مع دول المنبع. ويكشف عن إمكانيات أخرى تضاف إلى استغلال مياه الكونغو، هي استغلال الينابيع الصغيرة. خاصة في إثيوبيا التي تقود حملة التحريض على إعادة تقسيم مياه النيل، وحفر الآبار الأرتوازية، وتحسين وسائل استخدام المياه بتعميم الوسائل الحديثة مثل الري بالتنقيط.
ولا يرى الأكاديمي الفلسطيني الآن إمكانية تحريض أمريكية أوروبية لدول المنبع لتنفيذ مشاريع مائية تؤثر على مصر والسودان بسبب الظروف الراهنة، وإذا ما تغيرت سياسة مصر تجاه الدولة الصهيونية أو إيران أو الوحدة العربية أو لو امتلكت ثقافة متطورة سيتغير الموقف الغربي ومواقف أخرى. والمشكلة الأكبر هي الدولة الصهيونية وحرصها على الضغط بورقة مياه النيل إذا اتخذت مصر أو السودان مواقف سياسية وعسكرية مناهضة لها. بجانب حرصها على إشهار أسلحتها وأوراقها في مواجهة العرب كي لا يتصدوا لها مستقبلا. وسبق وحرضت الجنوبيين ضد وحدة السودان وسلحتهم ودربتهم، وليس من المستبعد مساعدتهم مرة أخرى إذا انفصلوا وأقاموا دولة مستقلة.
ويرى أن نشاط الدبلوماسية المصرية والاتصالات مع دول المنبع ومع الولايات المتحدة والدول الغربية. يرى أنه قد يثمر مؤقتا، لكنها لن يقضي على القلق العربي. ولا بديل عن تحسين العلاقات وإعادة أجواء الوفاق والوئام العربية الأفريقية التي كانت في عهد عبد الناصر، وعقب حرب 1973، ورفع مستوى الحوار العربي الأفريقي، وزيادة المساعدات العربية لدول أفريقيا ورفع مستوى الاستثمارات فيها، على أمل أن تتحمل دول النفط والغاز مسؤولية الإنفاق، وإعادة اللحمة إلى الروابط التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية مع مختلف الدول الأفريقية، وتحسين ظروف جنوب السودان، وتصحيح أي تجاوزات تكون حدثت بحق أهله، ومن المرجح أن يحول انفصال الجنوب السوداني الدولة الجديدة لقاعدة اختراق صهيونية لأفريقيا. تضر بمصر والسودان معا. ويصبح من المهم وقف تدخل إثيوبيا في الصومال، وهي لا تجد مانعا من تحريض دول المنبع وخلق حالة من التوتر مع الدول العربية.
كثيرون يتفقون مع الأكاديمي الفلسطيني بأن الحل الاستراتيجي هو في وحدة العرب، لكن ذلك غير ممكن الآن. إذن يجب الاهتمام بالعمل العربي المشترك والتوقف عن الدخول في متاهات الإحباط والعجز والهزيمة، ومع ذلك يبدو هذا المطلب مستحيلا بالنسبة للسياسة المصرية الغارقة في المشروع الصهيوني، وليس في الأفق ما ينبئ عن تغييرها حتى لو نفذت الدولة الصهيونية تهديد وزير خارجيتها بضرب السد العالي بالقنابل النووية. ولا حل إلا بتنصيب حكم وطني يوقف المصائب التي جلبتها سياسات حسني مبارك على مصر والعرب، وعلى جيرانهم وأصدقائهم. وبالأمس اغتصبت فلسطين، واليوم يدهس العراق ويباد، ويبدو أن الدور على مصر والسودان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.