10‏/12‏/2010

الياس المر «الكبير».. تهزمه أسرار «ويكيليكس»













لم يكن الياس المر، في العام 2001، أنهى سنته الأولى وزيراً للداخلية حين قال في حوار مع صحيفة عربية ما استحق فعلاً أن يكون عنواناً: لم أرث السلطة من والدي وزير الداخلية السابق ميشال المر ولا من حمي رئيس الجمهورية (السابق) اميل لحود.
لم تضع الصحيفة رسماً لوجه يبتسم في آخر العنوان. فالوزير لم يكن يمزح إذ جمعَ مجدين كهذين معاً لينفي أنهما سبب وصوله إلى الداخلية.
عنوان كهذا، مستعاداً بعد نحو عشر سنوات على وجود الياس المر في الحياة السياسية اللبنانية، لن يكون مفاجئاً. فالوزير ذو الابتسامة المتكلفة والملامح الجامدة أبداً على التعبير الرصين لمن تؤخذ له صورة شمسية، من النادر أن مرّ تصريح له أو مؤتمر صحافي او مقابلة تلفزيونية من دون أن يطلق مواقف وعبارات لا يمكن التعاطي معها إلا بوصفها مذهلة.
نعم. مذهلة لقدرتها على الذهاب بعيداً في الغرابة. فلا يعود للبناني وهو يستمع إلى الوزير «الرصين» إلا التحديق بغير ان يرمش، مفكراً: كيف يمكن للوجه الوقور أن تخرج منه هذه الكلمات؟ سؤال لا جواب عليه، مذ تلك الحبكة التراجيدية عن المسؤول الذي وجد نفسه عالقاً في «ضميره الشهير» بين عمه غبريال المر وشقيقته ميرنا المر. ومذ راح يطلق معاركه غير المرحة، على عكس معارك دون كيشوت، يوماً مع «الإرهاب» ويوماً آخر مع «المخدرات» وثالثاً مع «التطرف» وطبعاً مع «عبدة الشياطين» الظاهرة التي قضى عليها الوزير تماماً بدليل أن لا أحد ممن خلفوه في وزارة الداخلية تجرأ على ذكرها من بعده.
هكذا، راكم الوزير المر من الهفوات الكلامية ما يحرج جبلاً، ولم يهتز. ابن «القبضاي» لن يقبل بأن يكون أقل من السيد الوالد إصراراً على التفوه بالغرائب، لا بل إنه تفوق عليه، وشق طريقه في عالم الفرادة وحده، حتى بات ظاهرة في حد ذاته. وصار كلما حكى أوحى بالثقة بأن الكوكب، ما لم يكن يدور من أجله، فهو على أقل تقدير، يدور حوله.
بسبب لسانه، سرعان ما قضى على الانطباع الذي أراده لصورته، والذي عمل عليه مع اصدقاء له، اعلاميين، كسياسي مختلف. رغبته الدفينة بأن يكون نجماً شعبياً جعلته يطلق عبارات مثل «الاستقالة من الوزارة لم تعد مهمة، بعدما استقلت من نفسي وبيتي وعائلتي وقريتي من اجل تطبيق القانون». الرغبة نفسها جعلته ينخرط في ادوار شبه سينمائية من الدرجة الثالثة. في مرّة لعب دور المخطوف في مناورة لقوى الأمن لتحرير رهائن في طائرة مدنية (بعد وقوع 11 ايلول بفترة قصيرة) وفي مرّة ثانية مشهورة، أنقذ مصرفاً من خاطف غامض.. الى الكثير من مفاجآته التي كان آخرها صندوق التبرع للجيش، وتبرّعه له (أين صار الصندوق؟).
أدواره ارتدت عليه سلباً بالطبع، لكنه لم يكترث، لأنه ببساطة، ليس ممن يشعرون بالحرج. فاذا أراد الانقلاب على خط سياسي، وقف في مجلس الوزراء، في أيام صعود تيار 14 آذار، امام حميه نفسه، ليتلو خطاباً حزيناً عاتباً مفعماً بالضمير على «فخامة الرئيس». من دون أن يحرجه للحظة إقحام اولاده في جلسة لمجلس الوزراء يكرر فيها التوجه إلى جنرال مثل إميل لحود، جالساً على كرسي بلد يهتز من اقصاه إلى اقصاه، قائلاً له: «يا جد اولادي». من دون أن يلسعه في عنقه ذاك الظن بأن وزيراً واحداً على الأقل من هؤلاء يحدق فيه ساخراً من هذه التلاوة المريرة لفعل الندامة كي يُقبل إن ليس في نادي الثوار، فعلى هامشه.. لا بأس.
على ان الوزير لا يندم على ما يقول، لأنه يجيد ما يفعل. يحالفه حظ الاذكياء الذين سعوا فلاقوا. مكان الرئيس السابق، «جد الأولاد»، يأتي آخر مدين للوزير بآخر منصبين شغلهما، قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية. يستمر الوزير قوياً، وكما فتحت لغيره، تفتح ابواب الشام له ولو بعد طول توسّط. وكما نُسي كلام غيره يُنسى كلامه الذي ظل. وما دام قادراً وحده، على تركيب مواقف تكون فيها سوريا و«حزب الله» واميركا اصدقاءه، فهو قوي وباقٍ، قبضاي كما والده، لكن بطريقة عصرية. فإذا ألمح صحافي إلى شبهة حوله قام الوزير ولم يقعد، وساق الصحافي مخفوراً وهدد وأرعد.. وأزبد بحق الإعلام كله، فتلاشى أي تعاطف كان يمكن أن يقف إلى جانبه. أما إذا كُشفت تلك الوثيقة عن كلامه المعيب للسفيرة الأميركية ميشيل سيسون، اكتفى ببيان لا يقول شيئاً إلا عدم اكتراث الوزير بما أسرّ به للسفيرة الاميركية هو الذي لم يكترث قط لكل ما استمر يقوله في العلن.
ثمة طريق شقها الوزير الياس المر في السياسة وحده. من الطبيعي ان تكون الوثيقة التي خرجت عن «ويكيليكس» مفترقاً اساسياً فيها. وزير الدفاع المؤتمن ليس على حدود البلاد فحسب، بل على شرفها وتضحياتها ووفائها، على ما يقول شعار عسكرها، عليه أن يكون شفافاً بما يكفي لأن يضع نفسه في تصرف مجلس الوزراء، ليدافع عن أهليته للأمانة التي في عنقه. لم يفعل. كلامه المخجل عن الجيش الذي يجب ألا يحارب، وعن المقاومة، يفترض المنطق ان يكون خاتمة غير مشرّفة لحياة سياسية اذا كان صحيحاً. لكن، كيف نعرف دقته ووزير الدفاع لم يهب هذه المرة هبة المطعون في كرامته ليشرح موقفه بالتفصيل البطيء المملّ الذي عوّد اللبنانيين عليه، بل اكتفى بأن أوحى، في بيانه بان زلزال «ويكيليكس» الذي يضرب العالم هذه الايام، هو مؤامرة ضده شخصياً؟
فضّل المر ألا يواجه الوثيقة. وفي بيانه الثاني أمس لجأ إلى ما يشبه دبّ الصوت. رفعَ محاولة اغتياله، الجريمة البشعة المدانة، قميص دم يهدد به من يطالبه بما قاله للأميركيين. استنجد برئيس الجمهورية، برئيس الحكومة، بالشهداء، بالشعب اللبناني وبالقضاء الذي ينطق باسمه، ورمى الاتهامات جزافاً، وقرر من غير سبب واضح ألا يحضر مجلس الوزراء، الا اذا شاء تجنب احتمال وقوعه في الإحراج ان طولب بتفسير ما جاء في الوثيقة. لكنه امتحان سهل هذا الذي هرب منه صاحب الملكة الغريبة على عدم الاحساس بأي حرج. حتى ولو كان الكلام المنقول عنه يعرّيه أمام بلاده ورئيسها ومجلسي نوابها ووزرائها، وامام جيشها وشعبها.
هو، على الرغم مما نعرفه عن ضميره، لن يتقدم ليطالب بسؤاله عما قاله. ولن يجد من يسأله في هذه الجمهورية التي لا يُسأل فيها أحد عما قال أو فعل
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.